السبت، 11 يونيو 2011

فتاه مطعم منبارناس....قصه قصيره


فتاه مطعم مونبارناس...قصه قصيره

كانت تجلس وحيدة على إحدى موائد ذلك المطعم الصغير...أحد مطاعم ذلك الحي الشهير في قلب باريس...حي مونبرناس...على مقربة من أطول عمارة في المدينة و التي تحمل نفس الاسم
عمارة يفتخر بها الفرنسيون...ترتفع بحوالي 210 أمتار وتتكون من 59 طابق و 25 مصعد آلي...و مقهى في الطابق 56 تستطيع ان تتمتع وأنت في شرفته برؤية بانورا مية للمدينة بأكملها (الصورة)...كان في يدها كتاب صغير كتب بالفرنسية و كانت تقرؤ فيه بتركيز واضح جعلها لا تبالي بمن حولها ممن يأكلون أطباقهم...أو ممن أكملوا أكلهم و هموا بمغادرة المطعم...بين الفينة و الا خرى تلقي نظرة على بوابة المطعم كأنها تنتظر شخصا ما...كانت تبدو من خلال نظراتها الهادئة و ملا محها الطفولية فتاة بريئة لم يتجاوز سنها الخامسة عشر, كنت اراها في كل مرة آتي فيها لذلك المطعم الصغير,كلما حنت النفس لأكلة عربية ...باقي المرات أكتفي بأكلات سمك و بيتزا أو أكلة يابانية خالية من اللحوم...كنت أخرج من العمل وقت الظهيرة شأن أغلب الناس...لكني كنت أحب هذا المطعم الصغير و ألفت أن آتي إليه على الا قل مرة في الا سبوع حتى أصبح عندي كالمعبد الذي أشم فيه رائحة عربية و أسمع فيه ألحانا عربية من راديو إذاعة الشرق الذي يحرص صاحب المطعم على عدم تغييرموجته إلا نادرا...كانت مأكولاته شهية , بسيطة و ذات أثمنة معقولة...وحلال...لأ ن صاحبه عربي مسلم من البلد الشقيق تونس...كان المطعم رغم صغره يعرف إقبالا منقطع النظير خصوصا وقت الظهيرة ...ترى الناس واقفين في طابور كل ينتظر دوره ليطلب ما يريد أولا قبل أن يدلف للذاخل و يجلس على أ حد الموائد القليلة...هذا إن كان هناك مكان للجلوس و إلا فما عليك إلا طلب سندويتش و أكله في مكتبك أو في إحدى الحدائق المجاورة إن كان الجو يسمح بذلك بالطبع...الشيء النادر في هذه المدينة...معظم الوقت ضباب و برد و أمطار...لهذا كنت أحرص على أن أ كون من الأوائل الذين يحضرون للمطعم لأ جد مكانا مريحا دون عناء ولا مشقة.أطلب صحني المعتاد; لحم مشوي, سلاطة,طماطم,بطاطس مقلية,خبز و ليمون (الصورة) و أدلف للذاخل أنتظر النادل ليأ تيني بطلبي...أنصت لنغمات الموسيقى العربية و أتأمل الوجوه حولي...أغلبهم عرب و سود, قلما أرى أجنبيا في هذا المطعم...فمن الأ جنبي الذي يهمه أكل لحم حلال في مطعم صغير و المطاعم في ذلك الحي حدث و لا حرج...هذا مطعم ياباني و هذا الصيني و الهندي و الفرنسي و الإ يطالي و الفتنامي و الكوري...كل على شاكلته و كل طبخ له حلاوته و ذوقه الخاص...كنت أعرف أن الفتاة تنتظر ذلك الرجل الذي أ راه معها في كل مرة آتي فيها لهذا المطعم... رجل وقور في سن الخمسين على ما يبدو من خلال ملامحه والشيب الذي اكتسح أغلب شعره فزاده وقارا و بدا من ملامحه الباردة و لحيته القصيرة أنه يحمل عبئا ثقيلا تنوء له الجبال أو أنه كاره لهذه الدنيا بما تجود به عليه من أحزان, كان يأتي دائما بعد أن تكون تلك الفتاة قد سبقته بحوالي الربع ساعة أو النصف و أحيانا أنصرف أنا و تبقى تلك الفتاة تنتظر ولاأدري هل يأتي الرجل دائما أم أحيانا فقط...لم أكن أعرف نوع القرابة بينهما لكن على أغلب تقدير فهي ابنته ,فقد لاحظت شبها كبيرا في ملامحهما و نفس النظرة و نفس الملامح الباردة.كنت أراهما أحيانا يأكلان بهدوء و برود عجيبين, لا يتحدثان كأنهما يحسان بأن الأكل واجب يجب تأديته , لذلك يأتيان هنا كل يوم ليأكلا في صمت رهيب كأنهما يصليان,كنت أتساءل دائما عن حالهما, قلت ربما يتكلمان في المنزل كثيرا لذلك فهما هنا لا يتكلمان, مرة سمعت الرجل يسأل الفتاة و في يده قارورتين لمشروب غازي في فرنسية ركيكة : تريدين كوكا أم فانتا?, أجابته بكلمة واحدة : فانتا, و عاد الصمت الرهيب بينهما و أكملا أكلهما في خشوع...تركتهما في خلوتهما يومها و انصرفت...هكذا كنت أرى هذا الثنائي العجيب الذي أثار حيرتي...لطالما تساءلت...من هذا الرجل و ما نوع عمله? لم يكن لا أنيقا ولا حليقا, كان يلبس معطفا أحمرا في كل مرة أراه مع الفتاة ;لا يغيره رغم الأ وساخ التي بدت واضحة عليه! و لم أره يوما حالقا دقنه الذي كانت تتفرق في أرجائه كتل صغيرة من شعيرات بيضاء, مشكلة سوءا في التوزيع, كان لا يبالي بمنظره...أغلب الظن أنه عامل عادي أو حارس في إحدى العمارات المجاورة...ملامحه عربية و من خلال فرنسيته الركيكة فهو أكيد لم يدرس طويلا أو قد لا يكون دخل المدرسة قط لذلك فهو يعتني بابنته,
التي أكيد أنها تلميذة فمحفظتها لا تفارقها ,و في يدها دائما كتاب تقرؤه و هي تنتظره...ربما يرى أنها تستطيع تحقيق ما لم يستطع هو تحقيقه و أنها ستصل إلى أعلى درجات التفوق في الدراسة ...لكنها تبقى مجرد تخمينات و الحقيقة في علم الغيب...توقف تفكيري عند هذه النقطة , و مع مرور الايام أصبح عندي ذلك المنظر عاديا...آتي لذلك المطعم و أجد الفتاة تنتظر أو أجدهما معا يأكلان في صمتهما الرهيب...أصبح منظرا من المناظر التي أراها كل يوم...لوحة إشهارية على جدران ممرات المترو...و نسيت الموضوع برمته...إلى أن أتى ذلك اليوم...كان يوم جمعة, 21 سبتمبر 2001 ...نزلت من المترو...


كانت الساعة تشير إلى 9 و 10 دقائق صباحا, كنت أسرع الخطى لأصل لعملي الذي من المعتاد أبدؤه في 9...صعدت دروجا آلية و سرت في ممر طويل دون أن أعير اهتماما للوحات الا شهارية المنتشرة على جنبات الممر على غير عادتي...انتهى الممر الاول لأ نعرج يمينا و أبدأ في قطع آخر ممر قبل أن أصعد إلى سطح الارض...كنت أسرع و الناس حولي كل يسرع على شاكلته أو بما جادت به قدماه كأن مصيبة وقعت ,كان الممر الاخير أقصر من الأول قلت فيه اللوحات الإ شهارية و عدد المارة, جدرانه كانت من فسيفساء زرقاء تمتد من الأرض إلى السقف...في أقصاه بدا لي رجل متسول جالس على ركبتيه يطلب صدقة شأنه شأن معظم المتسولين في ممرات المترو, تجدهم جالسين و بيدهم لافتة صغيرة مكتوب عليها جملة صغيرة في أغلب الأ حيان تكون قطعة نقدية لآكل من فظلكم...غريبة هي بلاد الغرب...حتى التسول فيها يبدو أنيقا و طريقته فيها حوار و احترام!...اقتربت من آخر الممر و دفعتني غريزة فضولي أن أقرأ الا فتة التي يحملها الرجل في يده...كانت لافتته مختلفة بعض الشيء و مكتوبة بخط جميل ; إني جائع أرجوكم ساعدوني بقطعة نقدية لآكل , نظرت لوجهه في فضول كما نظر إليه الكثير من المارة...بعضهم ألقى له بقطعة نقدية و بعضهم تجاوزه دون مبالاة...يا إلهي هذا الوجه? هذه الملامح?! إني أعرفه..أين رأيته?...تلك النظرة الحزينة...اللحية القصيرة...المعطف الأحمر...إنه هو? رجل المطعم و الفتاة?!!! عجبا يتسول?! و يأكل في مطعم ?...تابعت سيري و أنا أفكر في ذلك الرجل المسكين...الآن بدأت أفهم لماذا كان في بعض الأحيان يشتري سندويتشا و يقتسمه مع ابنته...ربما لأن الناس لم يكونو كرماء معه في ذلك اليوم...فهمت لماذا في بعض الأحيان تنتظره ابنته طويلا دون جدوى, لطالما ذهبت و تركتها تنتظر...ربما لأنه في ذلك اليوم لم يجمع المال الكافي لغذاء ابنته...حقا عجيب أمر هذا الرجل!, يتسول و ينفق بسخاء على ابنته...كان ثمن الوجبة الأرخص في ذلك المطعم حوالي 5 يورو, هي عبارة عن سندويتش (الصوره) فيه كفتة أو نقانق أو بعض اللحم المشوي وبعض السلطة و قليل من الطماطم و البطاطس المقلية, و5 يورو فهي غالية على واحد يمتهن مهنة التسول و شراؤه له و لابنته يضاعف الثمن...و المشروب الغازي!...لكنه كان يريد لابنته أن تعيش كباقي التلميذات في سنها...لا يهمه كم سيخسرإن كان سيربح رضى ابنته...المهم هو أن تدرس هي و تنجح و أن لا تسير في نفس الطريق الذي مشى فيه...لا يريد لابنته أن تحمل لافتة و تتسول كما يفعل هو...لا يريدها أن تجلس فوق ركبتيها في ممرات المترو و تلك النظرة الكئيبة في عينيها...هذا إن نجت من ذئاب الغابة و لم تحترف مهنة تجلب له العار...لا كرامته و لا عروبته تسمحان له بتحمل ذلك...يكفيها أن تقرأ و تكد في دراستها لتنجح و هو سيفعل المستحيل من أجلها و من أجل أن يوصلها لبر الأمان...لكنها مجرد تخمينات بدرت إلى ذهني استفقت منها وأنا أذخل إلى عملي شارد الدهن أفكر في تلك الفتاة...فتاة مونبارناس...و لم أستطع المقاومة فحملت ورقة و قلما و نسيت العمل و بدأت أكتب هذه القصة...
تمت بحمد الله...
بقلم ابن زياد من باريس

ليست هناك تعليقات: